فصل: فَصْلٌ: الشَّرَائِطُ الْمُصَحِّحَةُ لِلدَّعْوَى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ:

وَأَمَّا حُكْمُ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ: فَالْوَقْفُ إذَا جَازَ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَزُولُ الْمَوْقُوفُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِغَلَّتِهِ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ حَبْسُ الْأَصْلِ وَتَصَدُّقٌ بِالْفَرْعِ، وَالْحَبْسُ لَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَحْبُوسِ كَالرَّهْنِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِصَرْفِ الْفَرْعِ إلَى مَصَالِحِ الْوَقْفِ مِنْ عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِ مَا وَهِيَ مِنْ بِنَائِهِ وَسَائِرِ مُؤْنَاتِهِ الَّتِي لابد مِنْهَا، سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَجْرِي إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ.
وَلَوْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ، فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَهُ فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ أَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ؛ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا، فَإِنْ امْتَنَعَ، مِنْ الْعِمَارَةِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا بِأَنْ كَانَ فَقِيرًا، آجَرَهَا الْقَاضِي وَعَمَرَهَا بِالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْوَقْفِ وَاجِبٌ وَلَا يَبْقَى إلَّا بِالْعِمَارَةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي اسْتِبْقَائِهِ بِالْإِجَارَةِ، كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ إذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهَا عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَنْفَقَ الْقَاضِي عَلَيْهَا بِالْإِجَارَةِ، كَذَا هَذَا.
وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفُهُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْغَلَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ، بَلْ هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ، وَلَوْ جَعَلَ دَارِهِ مَسْجِدًا فَخَرِبَ جِوَارُ الْمَسْجِدِ أَوْ اسْتَغْنَى عَنْهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، وَيَكُونُ مَسْجِدًا أَبَدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ يُصَلِّي فِيهِ النَّاسُ، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ فَقَدْ فَاتَ غَرَضُهُ مِنْهُ فَيَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، كَمَا لَوْ كَفَّنَ مَيِّتًا ثُمَّ أَكَلَهُ سَبْعٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ، كَذَا هَذَا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مَسْجِدًا فَقَدْ حَرَّرَهُ وَجَعَلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَصَحَّ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَى مِلْكِهِ كَالْإِعْتَاقِ، بِخِلَافِ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مَا حَرَّرَ الْكَفَنَ وَإِنَّمَا دَفَعَ حَاجَةَ الْمَيِّتِ بِهِ وَهُوَ سَتْرُ عَوْرَتِهِ، وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ فَيَعُودُ مِلْكًا لَهُ وَقَوْلُهُ: أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ، قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْمُجْتَازِينَ يُصَلُّونَ فِيهِ، وَكَذَا احْتِمَالُ عَوْدِ الْعِمَارَةِ قَائِمٌ، وَجِهَةُ الْقُرْبَةِ قَدْ صَحَّتْ بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ بِاحْتِمَالِ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا أَوْ أَرْضًا عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا بِالْخَرَابِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ مِيرَاثًا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ.

.فَصْلٌ: في الصَّدَقَةِ:

وَأَمَّا الصَّدَقَةُ إذَا قَالَ دَارِي هَذِهِ فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ بِالنَّذْرِ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَنْذُورِ بِهِ، وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ يَحْصُلُ بِالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الدَّارِ وَبَلْ أَوْلَى، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِ الدَّارِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، تَصَدَّقَ بِالسُّكْنَى وَالْغَلَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ، وَالْوَقْفُ حَبْسُ الْأَصْلِ وَتَصَدُّقٌ بِالْفَرْعِ، وَلَوْ قَالَ: مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً، تَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْكُلِّ لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكُلِّ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إيجَابِ الصَّدَقَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً وَنَحْوُ ذَلِكَ تُصْرَفُ إلَى بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ الْكُلِّ، فَكَذَا إيجَابُ الْعَبْدِ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَمْلِكُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَيُقَال لَهُ: أَمْسِكْ قَدْرَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِك وَعِيَالِك إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ مَالًا، فَإِذَا اكْتَسَبْتَ مَالًا تَصَدَّقْت بِمِثْلِ مَا أَمْسَكْت لِنَفْسِك؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الصَّدَقَةَ إلَى الْمَمْلُوكِ، وَجَمِيعُ مَالِهِ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ بِالْجَمِيعِ، إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: أَمْسِكْ قَدْرَ النَّفَقَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ عَلَى غَيْرِهِ لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.كِتَابُ الدَّعْوَى:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ رُكْنِ الدَّعْوَى وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حَدِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الدَّعْوَى وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ وَفِي بَيَانِ حُجَّةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَفِي بَيَانِ عَلَائِقِ الْيَمِينِ وَفِي بَيَانِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْخُصُومَةُ عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَصْمًا وَفِي بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ مَعَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَحُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَى لَا غَيْرَ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الثَّابِتِ فِي الْمَحَلِّ.
(أَمَّا) رُكْنُ الدَّعْوَى فَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِي عَلَى فُلَانٍ أَوْ قِبَل فُلَانٍ كَذَا أَوْ قَضَيْتُ حَقَّ فُلَانٍ أَوْ أَبْرَأَنِي عَنْ حَقِّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ.

.فَصْلٌ: الشَّرَائِطُ الْمُصَحِّحَةُ لِلدَّعْوَى:

وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُصَحِّحَةُ لِلدَّعْوَى فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا عَقْلُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَكَذَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْجَوَابُ وَلَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا لِتَعَذُّرِ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ وَالْعِلْمُ بِالْمُدَّعَى إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا الْإِشَارَةُ وَإِمَّا التَّسْمِيَةُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعَى لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فلابد مِنْ إحْضَارِهِ لِتُمْكِنَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِهَا إلَّا إذَا تَعَذَّرَ نَقْلُهُ كَحَجَرِ الرَّحَى وَنَحْوِهِ فَإِنْ شَاءَ الْقَاضِي اسْتَحْضَرَهُ وَإِنْ شَاءَ بَعَثَ إلَيْهِ أَمِينًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ وَهُوَ الْعَقَارُ فلابد مِنْ بَيَانِ حَدِّهِ لِيَكُونَ مَعْلُومًا لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ.
ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِذِكْرِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَكَذَا بِذِكْرِ حَدَّيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَهَلْ تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِذَكَرِ ثَلَاثَةِ حُدُودٍ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ نَعَمْ وَقَالَ زُفَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الشُّرُوطِ وَكَذَا لابد مِنْ بَيَانِ مَوْضِعِ الْمَحْدُودِ وَبَلَدِهِ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا هَذَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا فَإِنْ كَانَ دَيْنًا فلابد مِنْ بَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَى الْعَقَارِ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لابد وَأَنْ تَكُونَ عَلَى خَصْمٍ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِيرُ خَصْمًا إذَا كَانَ بِيَدِهِ فلابد وَأَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ فِي يَدِهِ لِيَصِيرَ خَصْمًا فَإِذَا ذَكَرَ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي عَلَى أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ لَا تُسْمَعُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ فِي يَدِ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْيَدِ غَيْرَهُ وَاصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ سَمِعَ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ لَكَانَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ لَا قَضَاءَ هُنَا أَصْلًا لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْلِفَ وَإِمَّا أَنْ يَنْكُلَ فَإِنْ حَلَفَ فَالْأَمْرُ فِيهِ ظَاهِرٌ وَإِنْ نَكَلَ فَكَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُدَّعِي وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ إنَّمَا يَجِبُ إيفَاؤُهُ بِطَلَبِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِهِ عَيْنًا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ عُذْرٌ إلَّا إذَا رَضِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ وَكَّلَ الْمُدَّعِي بِالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ عِنْدَهُ حَتَّى لَا يَلْزَمَ الْجَوَابُ وَلَا تُسْمَعَ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ حَتَّى يَلْزَمَ وَتُسْمَعَ لِمَا عُلِمَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ.
وَمِنْهَا مَجْلِسُ الْحُكْمِ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إلَّا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي كَمَا لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ إلَّا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْهَا حَضْرَةُ الْخَصْمِ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ إلَّا عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ إلَّا إذَا الْتَمَسَ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ كِتَابًا حُكْمِيًّا لِلْقَضَاءِ بِهِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَيْهِ فَيَكْتُبُ إلَى الْقَاضِي الَّذِي الْغَائِبُ فِي بَلَدِهِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ لِيَقْضِيَ عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَضْرَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهِ قِيَاسًا عَلَى الْحَاضِرِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ خَبَرًا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لَكِنْ يُرَجَّحُ جَانِبُ صِدْقِهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَظْهَرُ صِدْقُهُ فِي دَعْوَاهُ كَمَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاضِرًا يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا فَكَانَ الْمُدَّعِي صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا فَظَهَرَ صِدْقُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ قَضَاءً بِحُجَّةٍ مُظْهِرَةٍ لِلْحَقِّ فَجَازَ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَمْ تَسْمَعْ كَلَامَ الْآخَرِ» نَهَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْقَضَاءِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ سَمَاعِ كَلَامِ الْآخَرِ وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي حَالَ غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَضَاءٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْلَ سَمَاعِ كَلَامِ الْآخَرِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} «وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ بَيْننَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اقْضِ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ» وَالْحَقُّ اسْمٌ لِلْكَائِنِ الثَّابِتِ.
وَلَا ثُبُوتَ مَعَ احْتِمَالِ الْعَدَمِ وَاحْتِمَالُ الْعَدَمِ ثَابِتٌ فِي الْبَيِّنَةِ لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ فَلَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ حُكْمًا بِالْحَقِّ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْحُكْمُ بِهَا أَصْلًا إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ وَلَمْ يَظْهَرْ حَالَةَ الْغَيْبَةِ وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ ثُمَّ إنَّمَا لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا عَلَى الْغَائِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْحَاضِرِ حَقِيقَةً وَمَعْنًى وَالْخَصْمُ الْحَاضِرُ الْوَكِيلُ وَالْوَصِيُّ وَالْوَارِثُ وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ اتِّصَالٌ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَصِيَّ نَائِبَانِ عَنْهُ بِصَرِيحِ النِّيَابَةِ وَالْوَارِثُ نَائِبٌ عَنْهُ شَرْعًا وَحَضْرَةُ النَّائِبِ كَحَضْرَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مَعْنًى.
وَكَذَا إذَا كَانَ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ اتِّصَالٌ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْغَائِبِ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يَصِيرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ حَقُّهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّهِ ثُبُوتُ حَقِّ الْغَائِبِ فَكَانَ الْكُلُّ حَقَّ الْحَاضِرِ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الشَّيْءِ كَانَ مُلْحَقًا بِهِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْحَاضِرِ حَتَّى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ أَخُوهُ وَلَمْ يَدَّعِ مِيرَاثًا وَلَا نَفَقَةً لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى عَلَى الْغَائِبِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إثْبَاتَ نَسَبِهِ مِنْ أَبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأُمِّهِ وَهُمَا غَائِبَانِ وَلَيْسَ عَنْهُمَا خَصْمٌ حَاضِرٌ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْإِنَابَةُ وَلَا حَقٌّ يَقْضِي بِهِ عَلَى الْوَارِثِ لِيَكُونَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الْغَائِبِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ تَبَعًا لَهُ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ أَصْلًا وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مِيرَاثًا أَوْ نَفَقَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْحَاضِرِ وَهُوَ الْمَالُ وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ نَسَبِهِ مِنْ الْغَائِبِ فَيُنَصَّبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ تَبَعًا لَهُ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِالنَّسَبِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فَكَانَ دَعْوَى عَلَى الْحَاضِرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْأُخُوَّةِ وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ الْمُخَمَّسَةُ وَتَوَابِعُهَا عَلَى مَا نَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْهَا عَدَمُ التَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى وَهُوَ أَنْ لَا يَسْبِقَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَاقِضُهُ وَيُنَافِيهِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِرَجُلٍ فَأَمَرَ الْقَاضِي بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهَا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ لِلْحَالِ يَمْنَعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ مُنَاقِضًا لِلْإِقْرَارِ وَالْإِقْرَارُ يُنَاقِضُهُ فَلَا يَصِحُّ وَكَذَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ هَذَا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمِلْكِ لِفُلَانٍ لَا يَمْنَعُ الشِّرَاءَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَلَوْ قَالَ هَذَا لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ تُسْمَعُ مِنْهُ مَوْصُولًا قَالَ ذَلِكَ أَوْ مَفْصُولًا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ الدَّعْوَى بَلْ سَبَقَ مِنْهُ مَا يُقَرِّرُهَا لِأَنَّ سَابِقَةَ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ شَرْطُ تَحَقُّقِ الشِّرَاءِ مِنْهُ.
وَلَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ مَوْصُولًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَاهُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ مَفْصُولًا لَا تَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لِفُلَانٍ إقْرَارٌ مِنْهُ بِكَوْنِهِ مِلْكًا لِفُلَانٍ فِي الْحَالِ فَهَذَا يُنَاقِضُ دَعْوَى الشِّرَاءِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ كَوْنَهُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ كَمَا إذَا قَالَ مَفْصُولًا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ مَوْصُولًا مَعْنَاهُ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرُوا إذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا إذْ لَمْ يَكُونُوا قَلِيلًا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لَهُ وَلَا عَادَةَ جَرَتْ بِذَلِكَ فِي الْمَفْصُولِ فَحُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ بِحَقِيقَتِهِ مُنَاقَضَةٌ فَلَا تُسْمَعُ هَذَا إذَا بَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بَعْدَهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ وَادَّعَى الشِّرَاءَ مُبْهَمًا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ تُسْمَعُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْوَقْتَ يُحْمَلُ عَلَى الْحَالِ تَصْحِيحًا لَهُ هَذَا إذَا قَالَ هَذَا الشَّيْءُ لِفُلَانٍ وَلَمْ يَقُلْ لَا حَقَّ لِي فِيهِ فَإِنْ قَالَ لَا حَقَّ لِي فِيهِ ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا حَقَّ لِي فِيهِ لِتَأْكِيدِ الْبَرَاءَةِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَتُسْمَعُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ قَضَاهُ إيَّاهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَته لِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا قَضَاهُ إيَّاهُ لَدَفْعِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ.
وَلَوْ قَالَ لَمْ يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ وَلَا أَعْرِفُكَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِبَيِّنَتِهِ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ قَضَاهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أَعْرِفُكَ يُنَاقِضُ دَعْوَى الْقَضَاءِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ إيَّاهُ فَكَانَ فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ مُنَاقِضًا فَلَا تُسْمَعُ وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَالْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ أَبْرَأهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ إنْكَارَ الْبَيْعِ يُنَاقِضُ دَعْوَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْبَيْعِ فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَى الْإِبْرَاءِ فَلَا تُسْمَعُ وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إذَا سَبَقَ مِنْ الْمُدَّعِي مَا يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى إلَّا فِي النَّسَبِ وَالْعِتْقِ فَإِنَّ التَّنَاقُضَ فِيهِمَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِأَنْ قَالَ لِمَجْهُولِ النَّسَبِ هُوَ ابْنِي مِنْ الزِّنَا ثُمَّ قَالَ هُوَ ابْنِي مِنْ النِّكَاحِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَكَذَا مَجْهُولُ النَّسَبِ إذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ حَتَّى تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ بَيَانَ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ الْعُلُوقُ مِنْهُ إذْ هُوَ مِمَّا يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ فَالتَّنَاقُضُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَمَا إذَا اخْتَلَعَتْ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا عَلَى مَالٍ ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُسْمَعُ دَعْوَاهَا وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا لَمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا وَكَذَا الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مِمَّا يُحْتَمَلُ لِلثُّبُوتِ لِأَنَّ دَعْوَى مَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً أَوْ عَادَةً تَكُونُ دَعْوَى كَاذِبَةً حَتَّى لَوْ قَالَ لِمَنْ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ هَذَا ابْنِي لَا تُسْمَع دَعْوَاهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَكْبَرُ سِنًّا ابْنًا لِمَنْ هُوَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْهُ وَكَذَا إذَا قَالَ لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ هَذَا ابْنِي وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حَدِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حَدِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِي تَحْدِيدِهِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي مَنْ إذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ إذَا تَرَكَ الْجَوَابَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي مَنْ يَلْتَمِسُ قِبَلَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ حَقًّا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ يَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُنْظَرُ إلَى الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ مُنْكِرًا فَالْآخَرُ يَكُونُ مُدَّعِيًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي مَنْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فَيَنْفَصِلَانِ بِذَلِكَ عَنْ الشَّاهِدِ وَالْمُقِرِّ وَالشَّاهِدُ مَنْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ وَالْمُقِرُّ مَنْ يُخْبِرُ عَمَّا فِي يَدِ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الدَّعْوَى وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الدَّعْوَى وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ فَحُكْمُهَا وُجُوبٌ الْجَوَابِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ قَطْعَ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِن الْقَطْعُ إلَّا بِالْجَوَابِ فَكَانَ وَاجِبًا وَهَلْ يَسْأَلُهُ الْقَاضِي الْجَوَابَ قَبْلَ طَلَبِ الْمُدَّعِي ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُهُ وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُدَّعِي اسْأَلْهُ عَنْ دَعْوَايَ وَعَلَى هَذَا إذَا تَقَدَّمَ الْخَصْمَانِ إلَى الْقَاضِي هَلْ يَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ عَنْ دَعْوَاهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُهُ وَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي وَسَيَأْتِي وَإِذَا وَجَبَ الْجَوَابُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِمَّا إنْ أَقَرَّ أَوْ سَكَتَ أَوْ أَنْكَرَ فَإِنْ أَقَرَّ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَى الْمُدَّعِي لِظُهُورِ صِدْقِ دَعْوَاهُ.
وَإِنْ أَنْكَرَ فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَقَامَهَا وَلَوْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ هَلْ تُقْبَل رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا تُقْبَلُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا لَا تُقْبَل وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَهُ لَا بَيِّنَةَ لِي إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَالْإِتْيَانُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَعْلَمْهَا الْمُدَّعِي بِأَنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ هَؤُلَاءِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِهَا فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعًا فَتُقْبَلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَطَلَب يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْلِفُ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّحْلِيفَ فَإِنْ سَكَتَ عَنْ الْجَوَابِ يَأْتِي حُكْمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيهِ.

.فَصْلٌ: حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:

وَأَمَّا حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمَعْقُولُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا فَيَحْتَاجُ إلَى إظْهَارِهِ وَلِلْبَيِّنَةِ قُوَّةُ الْإِظْهَارِ لِأَنَّهَا كَلَامُ مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ فَجُعِلَتْ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ.
وَإِنْ كَانَتْ مُؤَكَّدَةً بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَكِنَّهَا كَلَامُ الْخَصْمِ فَلَا تَصْلُحُ حُجَّة مُظْهِرَةً لِلْحَقِّ وَتَصْلُحُ حُجَّةٌ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْيَدِ فَحَاجَتُهُ إلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْيَمِينُ وَإِنْ كَانَتْ كَلَامَ الْخَصْمِ فَهِيَ كَافٍ لِلِاسْتِمْرَارِ فَكَانَ جَعْلُ الْبَيِّنَةِ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَجَعْلُ الْيَمِينِ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَضْعَ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ حَدُّ الْحِكْمَةِ.
وَعَلَى هَذَا يُخَرَّج الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ مِنْ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا كَانَتْ حُجَّةَ الْمُدَّعِي لِكَوْنِهَا مُرَجِّحَةً جِنْسِيَّةَ الصِّدْقِ عَلَى جِنْسِيَّةِ الْكَذِبِ فِي دَعْوَاهَا الرُّجْحَانَ فَكَمَا يَقَعُ بِالشَّهَادَةِ يَقَعُ بِالْيَمِينِ فَكَانَتْ الْيَمِينُ فِي كَوْنِهَا حُجَّةً مِثْلَ الْبَيِّنَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهَا إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهَا الشَّهَادَةَ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ.
(وَلَنَا) الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَالْمَعْقُولُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَوْ جُعِلْت حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَا تَبْقَى وَاجِبَةً عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْيَمِين حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ الْيَمِينَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فَيَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ كُلِّ الْجِنْسِ فَلَوْ جُعِلَتْ حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَا يَكُونُ كُلُّ جِنْسِ الْيَمِينِ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ يَكُونُ مِنْ الْأَيْمَانِ مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَهُ وَهُوَ يَمِينُ الْمُدَّعِي وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْن مَعِينٍ وَقَالَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَالَ بِدْعَةٌ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِمَا مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا شَاهِدَانِ وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِد عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مَعَ مَا أَنَّهُ وَرَدَ مَوْرِدَ الْآحَادِ وَمُخَالِفًا لِلْمَشْهُورِ فَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَمَّا لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ فِيهِ قَضَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي الْأَمَانِ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْأَمَانِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَ عَدْلًا بِأَنْ شَهِدَ أَنَّهُ أَمَّنَ هَذَا الْكَافِرَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى لَا يُقْتَلَ لَكِنْ يُسْتَرَقُّ وَالْيَمِينُ مِنْ بَابِ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ فَحُمِلَ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَدِّهِ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا جَعَلَ الْيَمِينَ حُجَّةً إلَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالرَّدُّ إلَى الْمُدَّعِي يَكُونُ وَضْع الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَهَذَا حَدُّ الظُّلْمِ وَعَلَى هَذَا يُخَرِّج مَسْأَلَةَ الْخَارِجِ مَعَ ذِي الْيَدِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا تُقْبَل بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي وَذُو الْيَدِ لَيْسَ بِمُدَّعٍ بَلْ هُوَ مُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا تَكُونُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةً لَهُ فَالْتَحَقَتْ بَيِّنَتُهُ بِالْعَدَمِ فَخَلَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي عَنْ الْمُعَارِضِ فَيُعْمَلُ بِهَا وَقَدْ تُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْل آخِرٍ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ عَلَائِقِهِمَا وَعَلَائِقِ الْبَيِّنَةِ قَدْ مَرَّ ذِكْرُهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ.
وَنَذْكُرُ هُنَا عَلَائِقَ الْيَمِينِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْكَلَامُ فِي الْيَمِينِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنَّ الْيَمِينَ وَاجِبَةٌ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَفِي بَيَانِ الْوُجُوبِ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ أَدَائِهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الِامْتِنَاعِ عَنْ تَحْصِيلِ الْوَاجِبِ أَمَّا دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَعَلَى كَلِمَةٍ إيجَابٌ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ مِنْهَا الْإِنْكَارُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ التُّهْمَةِ وَهِيَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي الْإِنْكَارِ فَإِذَا كَانَ مُقِرًّا لَا حَاجَةَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُتَّهَم فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ الْإِنْكَارُ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ صَرِيحُ الْإِنْكَارِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهُوَ السُّكُوتُ عَنْ جَوَابِ الْمُدَّعِي عَنْ غَيْرِ آفَةٍ لِأَنَّ الدَّعْوَى أَوْجَبَتْ الْجَوَابَ عَلَيْهِ وَالْجَوَابُ نَوْعَانِ إقْرَارٌ وَإِنْكَارٌ فلابد مِنْ حَمْلِ السُّكُوتِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِنْكَارِ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَدَيِّنَ لَا يَسْكُتُ عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِغَيْرِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَسْكُتُ عَنْ إظْهَارِ الْحَقِّ لِنَفْسِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَكَانَ حَمْلُ السُّكُوتِ عَلَى الْإِنْكَارِ أَوْلَى فَكَانَ السُّكُوتُ إنْكَارًا دَلَالَةً وَلَوْ لَمْ يُسْكَتْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يُقِرَّ وَلَكِنَّهُ قَالَ لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا إنْكَارٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا إقْرَارٌ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُنْكِرُ إخْبَارٌ عَنْ السُّكُوتِ عَنْ الْجَوَابِ وَالسُّكُوتُ إنْكَارٌ عَلَى مَا مَرَّ وَمِنْهَا الطَّلَبُ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي وَحَقُّ الْإِنْسَانِ قِبَلَ غَيْرِهِ وَاجِبَ الْإِيفَاءِ عِنْدَ طَلَبِهِ، وَمِنْهَا عَدَمُ الْبَيِّنَةِ الْحَاضِرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَهُ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي كَالْبَيِّنَةِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِهِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي كَوْنِهَا حُجَّةَ الْمُدَّعِي كَالْأَصْلِ لِكَوْنِهَا كَلَامَ غَيْرِ الْخَصْمِ وَالْيَمِينُ كَالْخَلْفِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا كَلَامَ الْخَصْمِ فَلِهَذَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلْفِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمُدَّعَى حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِصًا فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِحْلَافُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِأَجْلِ النُّكُولِ وَلَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِأَنَّهُ بَذْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَالْحُدُودُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَلَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ لِهَذَا لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ يَحْلِفُ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ وَكَذَا لَا يَمِينَ فِي اللَّعَّانِ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْحَدِّ وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحُدُودِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ يَشُوبُهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ التَّعْزِيرَ.
وَفِي التَّعْزِيرِ يَحْلِفُ كَذَا هَذَا وَيَجْرِي الِاسْتِحْلَافُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مُحْتَمِلًا لِلْإِقْرَارِ بِهِ شَرْعًا بِأَنْ كَانَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَجْرِ فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ حَتَّى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخُوهُ وَلَمْ يَدَّعِ فِي يَدِهِ مِيرَاثًا فَأَنْكَرَ لَا يَحْلِفُ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِالْأُخُوَّةِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ أَبُوهُ وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهُ وَأَنَّ فِي يَدِهِ مَالًا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِنِصْفِهِ بِإِرْثِهِ مِنْ أَبِيهِ فَأَنْكَرَ يَحْلِفُ لِأَجْلِ الْمِيرَاثِ لَا لِلْأُخْوَةِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخُوهُ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ حَتَّى يُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِ نِصْفِ الْمِيرَاثِ إلَيْهِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ النَّسَبِ حَتَّى لَا يُقْضَى بِأَنَّهُ أَخُوهُ وَعَلَى هَذَا عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ فَأَقَرَّ بِهِ لِأَحَدِهِمَا وَسَلَّمَ الْقَاضِي الْعَبْدَ إلَيْهِ فَقَالَ الْآخِرُ لَا بَيِّنَةَ لِي وَطَلَب مِنْ الْقَاضِي تَحْلِيفَ الْمُقِرِّ لَا يُحَلِّفُهُ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَكَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا فَإِذَا أَنْكَرَ لَا يُحَلَّفُ إلَّا أَنْ يَقُولَ الَّذِي لَمْ يُقِرَّ لَهُ أَنَّك أَتْلَفَتْ عَلَيَّ الْعَبْدَ بِإِقْرَارِك بِهِ لِغَيْرِي فَاضْمَنْ قِيمَتَهُ لِي يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَةِ ذَلِكَ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْمُدَّعِي وَلَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافِهِ لَصَحَّ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ فَإِذَا أَنْكَرَ يَسْتَحْلِفُهُ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَأَنْكَرَ الْأَبُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ عِنْدَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ لَا يُسْتَحْلَفُ وَالثَّانِي أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لَا يَجْرِي فِي النِّكَاحِ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى الْحَاصِلِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ هَذَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً عِنْدَ الدَّعْوَى فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَادَّعَى أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا إيَّاهُ فِي صِغَرِهَا لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا قُلْنَا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْلِفُ أَيْضًا لِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلَكِنْ تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ لَصَحَّ إقْرَارُهَا وَعِنْدَهُمَا الِاسْتِحْلَافُ يَجْرِي فِيهِ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَرُّضِ فَتَحْلِفُ عَلَى الْحُكْمِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَوَّجَهَا عَبْدَهُ فَأَنْكَرَ الْمَوْلَى لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا اسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْلِفُ أَيْضًا لَكِنْ لِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَوَّجَهُ أَمَتَهُ لَا يَحْلِفُ الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَحْلِفُ لِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لَا يَجْرِي فِي النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ كَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْإِقْرَارِ وَعِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ سَوَاءٌ احْتَمَلَ الْبَذْلَ أَوْ لَا وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ أَنَّهَا لَا يَجْرِي فِيهَا الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ النِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ وَالنَّسَبُ وَالرِّقُّ وَالْوَلَاءُ وَالِاسْتِيلَادُ أَمَّا النِّكَاحُ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ تَدَّعِي امْرَأَةٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَوْجُهَا وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي وَطَلَب يَمِينَ الْمُنْكِرِ وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قَدْ كُنْت رَاجَعَتْك وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ وَعَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَطَلَب يَمِينَهَا وَأَمَّا الْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَقَالَ قَدْ كُنْت فِئْت إلَيْك بِالْجِمَاعِ فَلَمْ تُبَيِّنِي فَقَالَتْ لَمْ تَفِئْ إلَيَّ وَلَا بَيِّنَةَ لِلزَّوْجِ فَطَلَب يَمِينَهَا وَأَمَّا النَّسَبُ فَنَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَطَلَب يَمِينَهُ وَأَمَّا الرِّقُّ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَ وَقَالَ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ رِقٌّ أَبَدًا وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَطَلَب يَمِينَهُ وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَإِنَّهُ يَدَّعِي عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَبَاهَا وَأَنَّ أَبَاهَا مَاتَ وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ أَعْتَقَهُ وَأَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ ثَابِتًا مِنْهُ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَطَلَب يَمِينَهَا عَلَى مَا أَنْكَرَتْ مِنْ الْوَلَاءِ وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ أَمَةٌ عَلَى مَوْلَاهَا فَتَقُولُ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا وَلَدِي فَأَنْكَرَ الْمَوْلَى لَا يَجْرِي الِاسْتِحْلَافُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي وَالدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ تُتَصَوَّرُ فِي الْفُصُولِ السِّتَّةِ وَفِي الِاسْتِيلَادِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ جَانِبُ الْأَمَةِ فَأَمَّا جَانِبُ الْمَوْلَى فَلَا تُتَصَوَّرُ الدَّعْوَى لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى لَثَبَتَ بِنَفْسِ الدَّعْوَى وَهَذَا بِنَاء عَلَى مَا ذَكَرنَا أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عَنْهُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَثْبُت بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَلِيلُ كَوْنِهِ كَاذِبًا فِي إنْكَارِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا لَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ فَكَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا دَلَالَةً إلَّا أَنَّهُ دَلَالَةٌ قَاصِرَةٌ فِيهَا شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَاصِرٍ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ) أَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ لَمَا قُلْتُمْ وَيَحْتَمِلُ الْبَذْلَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ الدَّيِّنَ كَمَا يَتَحَرَّجُ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَتَحَرَّجُ عَنْ التَّغْيِيرِ وَالطَّعْنِ بِالْيَمِينِ بِبَذْلِ الْمُدَّعِي إلَّا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْبَذْلِ أَوْلَى لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ إقْرَارًا لَكَذَّبْنَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِنْكَارِ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ بَذْلًا لَمْ نَكْذِبْهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ هَذَا لَك وَلَكِنِّي لَا أَمْنَعُك عَنْهُ وَلَا أُنَازِعُك فِيهِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّكْذِيبِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ فَلَا تَحْتَمِلُ النُّكُولَ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّحْلِيفَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِيَ لِيَنْكُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَقْضِي عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النُّكُولَ لَا يَحْتَمِل التَّحْلِيفَ.